برشيد نيوز/ جمال لطفي والجيلالي طهير
تتركُ الأمطارُ في قلوبنا بحاراً، تتبخرُ، وتصعدُ غيمةً إلى السماء، من حيث هي آتية، لتُمطرنا مرة أخرى. الطيبون يُشبهون المطر، هكذا يأتون وهكذا ينصرفون، تتسعُ قلوبهم مثل البحارِ، وعندما يستعجلون الرحيلَ يتركون لنا حقائبهم، وظلالهم، وأصواتهم ، كأنهم سيعودون بيننا من جديد.
كل فتاةٍ بأَبيها معجبة، كذلك هي فلدةُ كبدِه، الطالبة الجامعية زكية المقلاع ، ومعها كل الذين تُعاودهم صورةُ الفقيد الراحل عبد المجيد المقلاع. إنهم يدعون له بالرحمة والمغفرة، وهي تراه دائماً باستمرار وراء أحزانها، تحتفظ له بآخر صورة البشاشة والحنان، تشعر بأنه معها دوما في الأعماق، مجرد التفكير فيه يبعث فيها القوة، ويشعرها بالراحة والاطمئنان.
منذ خمس سنوات خلت، انطفأ صوتُ المحامي الأستاذ عبد المجيد المقلاع، ولم يعد يسمع له صدى في قصر العدالة، كما تنطفأ النجمة الباردة الهاربة في السماء. بعد أن تكلم كثيراً، سبقنا إلى هناك صامتاً، منسحباً في صمت، لم يرافقه غير الصمت. ما ترك الأب الحنون غير الكلمة الطيبة، وفي حديقته نعناع سُكينة والنبتة الزكية، مثلما ترك الأَهل والأَصدقاء والزملاء، وذكرى كتب، وشجر وتراب، ومشى.
كثيرةٌ هي الوجوهُ التي مرت من أمامنا، لكن وجوهاً قليلةً فقط، مثل عبد المجيد المقلاع، تظل ملتصقةً بالذاكرة، تخدعنا حواسنا عندما نطلبها للجلوس والحوار. إننا ونحن نكتبُ عنه الآن، فلأنه تقاسم معنا هواءَ مدينة برشيد التي رأَينا فيها النور سويا، وكان لنا أصدقاءٌ مشتركين نعزهم كثيراً. ها هي المدينةُ الناسيةُ أهلها، تنشرُ أعضاءها فوق تجاعيد الحقول، ولا نعرف إلى أين هي ذاهبة. لم نعد نعرف نوع الطعمِ الذي يشدها إلى قلوبنا، وهي تعانقُ المضاربين العقاريين؟ أًهو حزنٌ أم حبٌ؟ لم نعد نشعر بأن لنا مدينة تبادلنا نفس الإِحساس الصادق، كلما حاولنا الاقتراب منها ، تهرب منا، كما يهربُ الراحلون، نحو مسافةٍ أبعد، تاركةً الصمت يحفر فينا أخاديدهُ العميقة. الموتُ هو الموتُ، نتساءل كيف يمكن للناس الطيبين ولهذه المدينة الطيبة أن يموتوا دفعةً واحدةً، بهذه السرعة المخيفة؟ يبدو أننا جيلٌ يعيشُ بتوقيت قطارِ الوطن الصغير.
من أَين يأتي هذا الهوسُ الذي يقودنا نحو الربطِ بين رحيل عبد المجيد المقلاع وموت المدينة؟ ربما لأَن قلبها النابض، القيسارية، كان أصابهُ سهمٌ غادر. سيدةُ الأَمكنةِ لم تكن فقط فضاء ًيعج بالرواد الذين مروا منها، بل فسحةً حميميةً أَباحت لأَهلها هوامشَ القولِ والتعبير، وفضحِ التعسفاتِ والتواطؤات. كانت مكاناً يعجُ بالمعنى، مسكوناً بالذاكرة الجماعية لأَجيال الستينيات، والسبعينات، والثمانيات من القرن الفائت، صنعوا المقاومةَ اليوميةَ للنظام الاجتماعي والثقافي والسياسي ببرشيد والناحية. المقاومة لا تعني شيئاً آخر غير البقاء نظيفاً رغم كل المعوقات، من أجلِ الحفاظ على الحيزِ الأدنى من الكرامةِ وعزة النفسِ.
كيْف كان عبد المجيد المقلاع، وكيف أصبح؟ في بداية المشوار، لبس بذلة رجال السلطة، على الرغم من معاداته الفطرية للظلمِ في سنوات الرصاص. في ذلك الزمن، كانت الإدارة الترابية بتجلياتها المختلفة كلها شر، شرٌ لا بد منه يقول عنها أهلها، تزرعُ الخوف في قلوبِ الرجال والنساءِ، تبث العيونَ في كل الأركانِ ، تفرضُ أقسى العقوباتِ على أَتفهِ الهفواتِ، تعاقبُ على النظرةِ، والنكتةِ أو الضحكةِ.
لنعدْ بالزمن سنواتٍ إلى الوراء. ولد عبد المجيد المقلاع ببرشيد حوالي سنة 1952، وتلقى تعليمه الابتدائي بمدرسة النصر للتعليم الحر، صحبة الشهيد عبد اللطيف زروال والمرحوم محمد بن الشهباء. فهل ثمة من تأثير للعم لمعاشي المقلاع، زميل مدير مدرسة النصر، عبد القادر زروال في الدراسة بكلية بن يوسف بمراكش، على المسار التعليمي لابن أخيه الطفل عبد المجيد المقلاع، واختياره المبكر للتعليم الحر؟
بعد مرحلة التعليم الإبتدائي، انتقل التلميذ عبد المجيد للعاصمة الرباط حيث تحصل على شهادة الشهادة الثانوية، والباكالوريا، وأخيراَ الإِجازة في القانون بكلية الحقوق، ليلتحق بالمدرسة الوطنية لاستكمال تكوين الأطر التابعة لوزارة الداخلية.
عُين عبد المجيد المقلاع قائداً بعمالة إقليم السراغنة، وبقيادة مولاي عبد الله أمغار، في بداية السبعينات، لكنهُ سرعان ما استقال من المنصبِ بسببِ حساسيتهِ المرهفة وقناعاتهِ الفكرية، المتنافيةِ مع مجريات الأمور. منذ الوهلة الأولى، لم يستطع تجنب الصدام مع رؤسائه المباشرين، الذين حاولوا إعادة تركيب خلاياه البشرية، وخلع عنه بذلة السلطة الجائرة. ما بعد السلطة لم يعد عنده كما قبلها ، كونه اختار بوعيٍ تامّ مهنة المحاماة، بهيئة سطات، ملزماً نفسه بالمُثلِ العليا للقضاءِ العادلِ، بأَقل أضواءٍ ممكنة.
في تلكِ المرحلة، كان أَقربُ الأَصدقاءِ المثقفين إلى قلبِ عبد المجيد المقلاع، صاحبُ السيارة الأُوستين / فورد البرتقالية اللون، نخبةٌ من عشاقِ أَتربةِ الورق، أَبرزهم من مدينة برشيد المرحوم عبد الإله فضلي، المسؤول عن صندوق العقاري والسياحي لاحقاً، والمرحوم محمد إيدوبلا، الناشط بمنظمة إلى الأمام السرية سابقاً، ومدير الميزانية بالخزينة العامة للمملكة لاحقاً. كمشةُ نورٍ أُخرى يصعبُ القبض عليها، شعاعٌ حارقٌ يلسعنا حبهم في أُعمق نقطةٍ في القاعِ، في الذاكرة، وفي القلب. انقطع المرحوم محمد إيدوبلا عن التدخين سنة 1981، والآخرون لم يقطعوه.
أَذرك عبد المجيد المقلاع أَن النزاهةَ والكفاءة المهنية هي أسلوب الحياة الوحيد الذي يسمح له بالعيش في مسقط رأسه، فكانت معركته الأولى مع نفسه كي لا يصنفه التاريخ كجلاد لا يفكر في عواقب أفعاله، ولا يستطيعُ في آخر حياته أن يتذكر عدد ضحاياه. مكنهُ نجاحه في الصمود في وجه الأغراءات، وكدا خروجه عن طوع مدرسة كتاب التقارير، وصناعِ الطغاةِ الصغارِ، من الإشتغال في المدينة الوثيقِ الصلةِ بها، كأول محامي بها مع القيدوم المصطفى شنان، أطال الله في عمره، بعد قضاءِ فترة التمرين بسطات في منتصف السبعينات.
أحب الفقيد المقلاع مهنته، فترافع في العديد من القضايا الوطنية، وقام بتحريك العديد من الطعون الدستورية. كان رجلاً نزيهاً بكل ما في الكلمة من معنى، يحب الحياة مثلما يحب الكلمة العفوية الصادقة، يختار قضاياه لإنصاف ذوي الحقوق، يتبنى احيانا قضايا الأصدقاء أو المعوزين مجانا، لا يتحمل الظلم ولا يطيقه، لايخدع غيره ولا يخشى في الحق لومة لائم. يشهد زملاؤه ومجايلوه أنه كان وطنياً في مقام العشق للوطن الحر الموحد المستقل. حمل معهم هموم ما يحدث في العراق وفلسطين وشتات الامة العربية. وعندما كانوا يشفقون عليه من ثقل الأعباء المهنية، ويشيرون عليه بنهج استراحة المحارب، كان يرد عليهم: " لا راحة الا في القبر" .
في حالات كثيرة، كان يخيل للبعض أنه يبتعد عن الموضوع في مرافعاته، فيرد مبتسما بأن العلوم الاجتماعية والإنسانية مترابطة القضايا والمنهج . أو يقول بدعابة المتواضعين لله أنه من طلاب الثقافة، وعلى الأساتذة التحلي الصبر وليس الطلاّب. ما كان يقف عند جفاف النص، بل يتجاوزه أحيانا إلى فضاءات أكثر سعة ورحابة، تعكس الحس الاجتماعي المرهف، والثقافة القانونية الواسعة.
يقول عنه أحد زملائه : " فقدنا أخا وصديقا وفيا مخلصا، وفقدت المحاماة الوطنية فارسا عظيما من فرسانها كثيرا ما صال وجال دفاعا عن قضايا عادلة. كان بسيطا في حياته، متواضعا في سلوكه، محبا للعلم وطلبه، أنعم الله عليه بعقل متفتح وتفكير حر ومستنير". ويصفه آخر بقوله: " كان بسيطاً في مسلكه ، صلباً في مواقفه ، شديد الاعتزاز برأيه، متواضعاً أمام رأي الآخرين، عفيفاً في حياته قريباً من الزهد، هادئا وصبوراً، نزيهاً في حكمه علي الناس والوقائع والظروف، واقعياً في فهمه للحقائق ومرناً حين تشتد الحاجة للتسويات".
الراحل نسي صوته، وبذلته الحقوقية، وملفاته، وأوراقه المبعثرة. ترك النزاهة لوردته الزكية، والوفاء لأرملته الحبشية، سكينة السعداوي بنت المكي بن أحمد ولد الحاج المعطي ولد زريريعة. رحم الله الفقيد، وغفر له.